مباركٌ من علّق على خشبة
حديث من وحي اسبوع الآلام أُلقِيَ في كنيسة السيّدة في جون
يبدأ الكلام عن رجالات التاريخ بذكر اعمالهم واقوالهم وبطولاتهم ... اما الكلام عن يسوع الناصري فيبدأ بحدث موته وقيامته : تلك هي البشرى الحلوة، ذلك هو الانجيل الذي بشّر به التلاميذ وشهدوا له بحياتهم وكلامهم وكتاباتهم وادركوا كل معانيه وابعاده الخلاصية.
ونحن المؤمنين بهذا الانجيل عينه لا يسعنا اليوم الاّ ان نقرأ تلك الشهادة الحيّة ونفهمها على حقيقتها لنقبلها ونعيشها ونشهد لها بدورنا الشهادة الحيّة.
لذا فانّنا سنحاول في حديثنا هذا ان نتبيّن ونلخّص من خلال نصوص الانجيل ورسائل القديس بولس، معنى حدث صلب يسوع في ابعاده الثلاثة : التاريخي والمسيحاني والايماني.
معنى حدث الصلب في بعده التاريخي :
انّ لموت يسوع ابعادًا سياسية واجتماعية واقعيّة تجعله حدثًا من احداث تاريخ الانسانيّة المسطّر بدم الابرياء ويسوع واحد من هؤلاء.
يتّضح من الانجيل بحسب متى ومرقس ولوقا ان يسوع قضى الاسبوع الاخير من حياته في اورشليم حيث "كان في النهار يعلّم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل المسمّى جبل الزيتون وكان الشعب كلّه يبكّرون اليه في الهيكل ليستمعوه" (لو 21/ 37-38).
امّا يوحنّا فيخبر انّ المحفل اليهودي قد التأم برئاسة رؤساء الكهنة والفريسيين "وائتمروا ان يقتلوا يسوع وامروا بانّه ان علِم احد اين هو فليدلّهم عليه ليمسكوه" (يو 11/53.56). لذلك نرى يسوع يختفي عن اورشليم نحو البرّية كرجل محكوم عليه بالموت، تطارده العدالة القائلة : "خير لكم ان يموت رجل واحد عن الشعب وإلاّ تهلِك الأمّة كلّها" (يو 11/50).
فكيف يبدو لنا اذًا موت يسوع التاريخي واسبابه ومن هو المسؤول عنه ؟
من محاكمة يسوع امام بيلاطس يتّضح لنا ما يلي :
1- لم يُصدر بيلاطس اي حكم قانوني شرعي بالموت على يسوع. لأنّه كان مقتنعًا ببراءته وكان يحاول بشتّى الطرق ان يخلّصه من ايدي اليهود.
2- رؤساء الكهنة هم الذين هيّجوا المحفل اليهودي وجماهير الشعب فطالبوا تبرير برأبّا والحكم على يسوع بالصّلب.
وكان برأبّا رجلاّ ملقى في السجن "موثقًا مع اهل الفتنة الذين ارتكبوا القتل في فتنتهم"
(مر 15/7). الصقوا بيسوع تهمة الاشتراك في تلك الفتنة والعصيان على الانظمة الرومانية وانّه بذلك يجعل ملكًا يقاوم قيصر. فكان من حق بيلاطس ان يحكم بالموت فورًا على من يؤخذ بجرم مشهود كهذا، دون ان يُصدر اي قرار رسمي قانوني بذلك.
3- فالمسؤولون الحقيقيّون هم رؤساء الكهنة. هم ايضًا لم يعقدوا محفلاً شرعيًّا ولم يجروا محكمة قانونيّة ولم يصدروا قرارًا رسميًا بموت يسوع. ومن اهمّ الاسباب انّه قال "انّه هو ابن الله" ممّا اثار غضب المحفل، خاصة قيافا رئيس الكهنة في ذلك الوقت، وانّه تكلّم ضدّ الهيكل المقدّس، وانّه تعدّى في الهيكل على سلتطهم الكهنوتيّة، يوم "اكلته غيرة بيت ابيه" فطرد منه الباعة والصيارفة. لقد راموا التخلّص من يسوع حسدًا (مر 15/10) فراحوا يحرّضون المحفل والشعب والوالي للحكم على يسوع بالموت سريعًا والتنفيذ المباشر.
معنى حدث الصلب في بعده المسيحاني
يسوع ليس النّبي فحسب، بل هو مسيحًا المسيح الملك الموعود به في الانبياء. كان شعب العهد القديم في انتظار مزمن لمسيح آت بقوّة وجبروت ليملك على اسرائيل ويسحق الاشرار الاعداء ويردّ المُلك المسلوب.
كيف كان باستطاعة يسوع ان يصمُد في وجه هذا التيّار الشعبي الجارف ؟. كم مرّة بعد ان اشبع جوعهم وشفى مرضاهم كانوا يحاولون ان ينصّبوه ملكًا عليهم ؟ اليس هذا معنى تجارب يسوع الثلاث ؟ الم يكن يسوع معرّضًا لمثل هذه التجارب كل لحظة من حياته الرسوليّة ؟ حتى الصليب : "ان كان هو ملك اسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به".
لا. لم تكن صورة المسيح الملك كما ارتسمت في اذهان معاصريه، الصورة الحقيقية التي احبّ يسوع ان يحققها في حياته. انّ الحماس الشعبي والتأييد الكامل ليسوع في مناسبات عدّة اهمّها يوم دخوله الى اورشليم باء بالفشل واليأس وخيبة الأمل الشعب الملحّة اليه ملكًا جبّارًا يقلب عرش روما. الم تكن مثل تلك المحاولات المتكرّرة والفاشلة هي التي ادّت شيئًا فشيئًا الى ذلك الانتقام السريع : "اصلبه اصلبه. دمه علينا وعلى اولادنا".
يسوع ما انفكّ ان اعلن لتلاميذه المرة تلو المرة : "ان ابن البشر سيسلم الى ايدي الناس فيقتلونه وبعد ان يقتل يقوم في اليوم الثالث" (مر 9/13).
معنى حدث الصلب في بعده الايماني
اخذ حدث الصليب في التفكير المسيحي القديم معنى جديدًا هو معنى الذبيحة والفداء والمصالحة بين الله والانسان : الله غاضب ساخط على اثم البشر ونفاقهم عبر تاريخهم كلّه لا ترضيه الذبائح والمحرقات. انّها قاصرة لاتصلح ان تكون كفّارة كافية تعوّض عن الاهانة اللامتناهية اللاحقة به. لذا اراد ان يكون ابنه الوحيد هو نفسُه الذبيحة والمحرقة والفدية والكفّارة اللامتناهية لعدل الله اللامتناهي. نرى هذا المفهوم الجديد تكرارًا في رسائل القديس بولس.
مع الاشارة انّ يسوع لم يكن يومًا منفّذًا آليًّا لا غير لِما جاء في الكتب او لما خطّه الآب منذ الازل. لم يكن يسوع مرة خيالاً ينفّذ اوامر خارجة عنه وعن ارادته.
سيبقى صلب المسيح في ضمير الانسانية اثمًا وشرًّا كبيرا، ووصمة عار تلطّخ جبين الانسانية الخاطئة على ممر العصور بأسرها.
موت يسوع سيبقى مثل موت العديد من الابرياء الصالحين جريمة ابديّة لا تغتفر. امّا الجديد في حدث صلب يسوع انّه غَفَرَ.
بالمحبة غلب يسوع الموت وقضى على الحقد والخطيئة والشر. المحبة اقوى من الموت واقوى من كل شيء.
فموت يسوع هو اولا ارادة الانسان الخاطئ وفي الوقت نفسه ارادة الله القدّوسة وفي الوقت عينه ارادة يسوع الحرّة.
الخاتمة
لقد اختار يسوع ان يسير في طريق المحبة والالم والصلب لا في طريق التحدي والقوة. القدرة بلا محبة قوة شيطانية هدّامة. اما المحبة ولو بدون القدرة فتبدّل كل شيء.
المحبة هي التي تبدل لا القدرة. القدرة تبدل الحكام والاشخاص ولكنّها تعجز عن تبديل ذهنية الناس وعقولهم وقلوبهم. المحبة وحدها تقدر على ذلك.
دخل يسوع راضيا حرّا في صراع القدرة والمحبة، الذي يتجاذب الجماعة البشرية في كل البلدان والعصور، ولم يشأ ان يهرب من امام الموت بقوّة الاعجوبة ... اي قوّة او اي اعجوبة تبدّل البغض او الحقد الذي يقود الى القتل والموت، الاّ الحب الذي يبدّل معنى الموت بالذات ويقلب الموت والبغض نفسه الى حب.
انّ امانة يسوع لرسالته الخلاصيّة حتى النهاية هي المعنى الحقيقي الخالد لحدث الصليب الذي هو "شكٌّ لليهود وجهالة للأمم" (1كور 1/23). اما نحن المؤمنين "فهو قوّة الله وحكمته" (1 كور 4/24).
بقلم الشمّاس حنّا كنعان المخلّصي
27/3/2012